0


✍️  عبدالرحمن قحل : 

الكتابة هي أحد أهم الوسائل التي يعبر بها الإنسان عن أفكاره ومشاعره وتجربته الوجودية. وهي عالم واسع تتعدد أشكاله وأساليبه، ويقع في قلب هذا العالم جدلٌ مستمر بين الواقعية والخيال. فهل يجب أن تكون الكتابة مرآة للواقع تعكسه كما هو، أم ينبغي أن تطير بأجنحة الخيال بعيداً عن قيود الزمان والمكان؟ هذا التساؤل قديم ومتجدد، وقد أسهم في تشكيل مدارس أدبية وفنية لا تزال حية حتى اليوم.


الكتابة الواقعية: مرآة المجتمع تسعى إلى 

تصويرالحياة كما هي، بلا تزييف أو تهويل. الكاتب الواقعي يلتقط تفاصيل الحياة اليومية، ويغوص في قضايا المجتمع، كالفقر، والظلم، والطبقية، في محاولة لفهم الواقع أو تغييره. نشأت الواقعية في الأدب الأوروبي في القرن التاسع عشر كرد فعل على الرومانسية، وتمثلت في أعمال كتاب كبار مثل ليو تولستوي وفلوبير وبلزاك، حيث جعلوا من الإنسان العادي محوراً لأدبهم.


تكمن قوة الواقعية في قدرتها على خلق صلة مباشرة بين النص والقارئ، إذ يرى القارئ نفسه ومجتمعه في ما يُكتب. كما تعزز الواقعية الوعي الاجتماعي، وتمنح الأدب وظيفة توثيقية ونقدية، تجعل منه أداة للتعبير.

 الخيال نافذة على ما وراء الواقع يقف كجناح آخر للكتابة، يمنحها حرية الانفلات من حدود الواقع. الكاتب الخيالي لا يلتزم بالحقائق أو التفاصيل اليومية، بل يصنع عوالمه الخاصة، ويعيد تشكيل قوانين الطبيعة والمجتمع والدين والتاريخ، بل وقد يتجاوزها جميعاً ليغوص في عوالم الفانتازيا أو الخيال العلمي.


الخيال لا يعني الهروب من الواقع، بل قد يكون أعمق تعبير عنه. فكم من رواية خيالية كشفت عن حقائق إنسانية أو اجتماعية لا يمكن التعبير عنها مباشرة؟ روايات مثل “مئة عام من العزلة” لماركيز، و”1984” لجورج أورويل، تجاوزت الواقع الظاهري لتعبّر عن أعماق النفس الإنسانية أو تحذّر من مستقبلٍ محتمل.


الكتابة بين الواقعية والخيال: تكامل لا تتناقض ولا يمكن الفصل القاطع بين الواقعية والخيال، فحتى أكثر الأعمال الواقعية تتضمن قدراً من الخيال، سواء في التركيب الفني أو في الرؤية التأويلية للعالم، وكذلك فإن أكثر النصوص خيالاً غالباً ما تستند إلى جذور واقعية، سواء في تجارب المؤلف أو في الخلفيةالاجتماعية للنص.


بعض أعظم الأعمال الأدبية تمثل مزجاً خلاقاً بين الاثنين؛ فروايات نجيب محفوظ، مثلاً، تمزج بين الواقع الاجتماعي والسياسي لمصر، وبين البعد الرمزي والميتافيزيقي الذي يضفي عمقاً على النص.

الكتابة ليست ملزمة بأن تكون واقعية تماماً أو خيالية بالكامل، بل هي مساحة حرة يجمع فيها الكاتب بين تجربته، وخياله، ووعيه، ليقدم رؤيته الخاصة للعالم. إن التوازن بين الواقعية والخيال هو ما يمنح الأدب جماله وخلوده، ويجعله قادراً على ملامسة الحقيقة من زوايا متعددة، بعضها واقعي، وبعضها لا يمكن الوصول إليه إلا عبر الخيال.



إرسال تعليق

 
الى الاعلى