✍️ د. منى جمال :
في هذا العالم المتسارع، حيث تُقاس القيمة بالإنجازات ويُحدّد المعنى بالأرقام، يقف الإنسان أحيانًا حائرًا أمام ذاته، يتساءل في صمتٍ موجع: “هل هذه هي النسخة التي خلقت لأكونها؟” وفي عمق السؤال تنبت الإجابة: لا، ثمة ما هو أعمق، أنقى، وأجدر بالظهور. النسخة الأفضل منا لا تُولد جاهزة، بل تُنحت بالصبر، وتُروى بالصدق، وتُصقل بالسعي.
التطور ليس قفزًا مفاجئًا، بل سيرٌ وئيد نحو الداخل. رحلةٌ تبدأ حين نكفّ عن الهروب من أنفسنا، ونتجرأ على النظر في المرآة، لا بعيون الآخرين، بل ببصيرتنا. وهنا، يتبدى المعنى الجليل في قول الله تعالى: “إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ”، دعوة إلهية صريحة لإعادة تشكيل الذات، لا بالظروف ولا بالناس، بل بالإرادة النابعة من الداخل.
أن أُطوّر نفسي، لا يعني أن أُجبرها على الكمال، بل أن أُعيدها إلى أصلها النقي، أن أزيح عنها غبار الخوف والتردد والتكرار. يعني أن أُمارس الصدق مع نفسي، أن أضع إصبعي على مواضع الضعف، لا لأجل جلد الذات، بل لأجل شفائها. أن أعترف بحزني، بفشلي، بتقصيري، ثم أقف، وأمضي.
في طريق التطوير، المعرفة هي المفتاح. لا تلك التي تملأ الرفوف، بل التي تضيء القلب وتفتح البصيرة. كما قال الله تعالى: “قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ”. التعلّم ليس ترفًا، بل ضرورة لمن أراد أن يسمو، لمن أراد أن يفهم نفسه والعالم، ويختار بوعي لا بعادة.
لكن العقل وحده لا يكفي، فالروح إن جاعت أطفأت كل نور. نحتاج أن نُهذّبها، نُغذيها بالسكينة، بالصلاة، بالتأمل، بالعودة إلى الله. أن نمنح أنفسنا لحظات من الصمت لا للهروب، بل للقاءٍ داخليّ نادر. نحتاج أن نحسن صحبتها، أن نكون أحنّ عليها من قسوة الحياة.
ثم يأتي دور العلاقات، فهي مرايا تعكس ما نؤمن به عن أنفسنا. لا يليق بمن يسعى ليكون أفضل، أن يحيط نفسه بمن يُطفئ نوره. علينا أن نُعيد النظر في من نُصغي إليهم، من نُشاركهم مساحتنا، ومن نسمح لهم أن يلمسوا أعماقنا. فلربما كان ثقلنا، فيمن نُصاحب، لا فينا.
ولأن الطريق طويل، لابد من الالتزام بالمحاولة، أن نفعل اليوم ما لم نكن نفعله بالأمس، ولو كان صغيرًا. التطوّر لا يُقاس بالخطوات الكبرى، بل بالثبات، بالمداومة، بالنية الصافية في كل فعلٍ نُقدّمه نحو أنفسنا.
وفي النهاية، ليست النسخة الأفضل منا شيئًا خارجًا عنا نطارده، بل هي نحن حين نصدق، حين نحيا كما خُلقنا لنكون، حين نُزكي أنفسنا كما أراد الله، إذ قال: “قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا”. الفلاح الحقيقي لا في الشهرة ولا في الكمال، بل في تزكية النفس ، في النقاء، في السعي.
تطوير النفس ليس مشروعًا مؤقتًا، بل عهدٌ طويل نُقطعه على أنفسنا: أن نُحبها، نُنير عتمتها، ونُرافقها بلطف حتى تبرق. نحن لا نحتاج أن نصبح أحدًا آخر، بل أن نُصبح أنفسنا كما أرادنا الله: منسجمين، ناضجين، صادقين، أحياء حقًا…
إرسال تعليق